فصل: الفصل الثاني والأربعون في أن نقص العطاء من السلطان نقص في الجباية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  الفصل الثاني والأربعون في أن نقص العطاء من السلطان نقص في الجباية

والسبب في ذلك أن الدولة والسلطان هي السوق الأعظم للعالم ومنه مادة العمران‏.‏ فإذا احتجن السلطان الأموال أو الجبايات أو فقدت فلم يصرفها في مصارفها قل حينئذ ما بأيدي الحاشية والحامية وانقطع أيضاً ما كان يصل منهم لحاشيتهم وذويهم وقلت نفقاتهم جملة وهم معظم السواد ونفقاتهم أكثر مادة للأسواق ممن سواهم‏.‏ فيقع الكساد حينئذ في الأسواق وتضعف الأرباح في المتاجر فيقل الخراج لذلك لأن الخراج والجباية إنما تكون من الاعتمار والمعاملات ونفاق الأسواق وطلب الناس للفوائد والأرباح‏.‏ ووبال ذلك عائد على الدولة بالنقص لقلة أموال السلطان حينئذ بقلة الخراج‏.‏ فإن الدولة كما قلناه هي السوق الأعظم أم الأسواق كلها وأصلها ومادتها في الدخل والخرح فإن كسدت وقلت مصارفها فأجدر بما بعدها من الأسواق أن يلحقها مثل ذلك وأشد منه‏.‏ وأيضاً فالمال إنما هو متردد بين الرعية والسلطان منهم إليه ومنه إليهم فإذا حبسه السلطان عنده فقدته الرعية‏.‏ سنة الله في عباده‏.‏

  الفصل الثالث والأربعون في أن الظلم مؤذن بخراب العمران

اعلم أن العمران على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك‏.‏ وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب فإذا كان الاعتداء كثيراً عاماً في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالأمال جملة بدخوله من جميع أبوابها‏.‏ وإن كان الاعتداء يسيراً كان الانقباض عن الكسب على نسبته‏.‏ والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين‏.‏ فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران وانتقضت الأحوال وابذعر الناس في الأفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها فخف ساكن القطر وخلت دياره وخربت أمصارة واختل باختلاله حال الدولة والسلطان لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورة‏.‏ وانظر في ذلك ما حكاه المسعودي في أخبار الفرس عن الموبذان صاحب الدين عندهم أيام بهرام بن بهرام وما عرض به للملك في إنكار ما كان عليه من الظلم والغفلة عن عائدته على الدولة بضرب المثال في ذلك على لسان البوم حين سمع الملك أصواتها وسأله عن فهم كلامها فقال له‏:‏ أن بوماً ذكراً يروم نكاح بوم أنثى وإنها شرطت عليه عشرين قرية من الخراب في أيام بهرام فقبل شرطها وقال لها‏:‏ إن دامت أيام الملك أقطعتك ألف قرية وهذا أسهل مرام‏.‏ فتنبه الملك من غفلته وخلا بالموبذان سأله عن مراده فقال له‏:‏ أيها الملك إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة والقيام لله بطاعته والتصرف تحت أمره ونهيه ولا قوام للشريعة إلا بالملك ولا عز للملك إلا بالرجال ولا قوام للرجال إلا بالمال ولا سبيل إلى المال إلا بالعمارة ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل‏.‏ والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة نصبة الرب وجعل له قيماً وهو الملك وأنت أيها الملك عمدت إلي الضياع فانتزعتها من أربابها وعمارها وهم أرباب الخراج ومن تؤخذ منهم الأموال وأقطعتها الحاشية والخدم وأهل البطالة فتركوا العمارة والنظر في العواقب وما يصلح الضياع وسومحوا في الخراج لقربهم من الملك‏.‏ ووقع الحيف على من بقي من أرباب الخراج وعمار الضياع فانجلوا عن ضياعهم وخلوا ديارهم وآووا إلى ما تعذر من الضياع فسكنوها فقلت العمارة وخربت الضياع وقلت الأموال وهلكت الجنود والرعية وطمع في ملك فارس من جاورهم من الملوك لعلمهم بانقطاع القواد التي لا تستقيم دعائم الملك إلا بها‏.‏ فلما سمع الملك ذلك أقبل على النظر في ملكه وانتزعت الضياع من أيدي الخاصة وردت على أربابها وحملوا على رسومهم السالفة وأخذوا في العمارة وقوي من ضعف منهم فعمرت الأرض وأخصبت البلاد وكثرت الأموال عند جباة الخراج وقويت الجنود وقطعت مواد الأعداء وشحنت الثغور وأقبل الملأ على مباشرة أموره بنفسه فحسنت أيامه وانتظم ملكه‏.‏ فتفهم من هذه الحكاية أن الظلم مخرب للعمران وإن عائدة الخراب في العمران على الدولة بالفساد والانتقاض‏.‏ ولا تنظر في ذلك إلى أن الاعتداء قد يوجد بالأمصار العظيمة من الدول التي بها ولم يقع فيها خراب‏.‏ واعلم أن ذلك إنما جاء من قبل المناسبة بين الاعتداء وأحوال أهل المصر‏.‏ فلما كان المصر كبيراً وعمرانه كثيراً وأحواله متسعة بما لا ينحصر كان وقوع النقص فيه بالاعتداء والظلم يسيراً لأن النقص إنما يقع بالتدريج‏.‏ فإذا خفي بكثرة الأحوال واتساع الأعمال في المصر لم يظهر أثره إلا بعد حين‏.‏ وقد تذهب تلك الدولة المعتدية من أصلها قبل خراب المصر وتجيء الدولة الأخرى فترفعه بجدتها وتجبر النقص الذي كان خفياً فيه فلا يكاد يشعر به إلا أن ذلك في الأقل النادر‏.‏ والمراد من هذا أن حصول النقص في العمران عن الظلم والعدوان أمر واقع لا بد منه لما قدمناه ووباله عائد على الدول‏.‏ ولا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور بل الظلم أعم من ذلك‏.‏ وكل من أخذ ملك أحد أو غضبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقاً لم يفرضه الشرع فقد ظلمه‏.‏ فجباة الأموال بغير حقها ظلمة والمعتدون عليها ظلمة والمنتهبون لها ظلمة والمانعون لحقوق الناس ظلمة وغصاب الأملاك على العموم ظلمة ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الأمال من أهله‏.‏ واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال‏.‏ فلما كان الظلم كما رأيت مؤذناً بانقطاع النوع لما أدى إليه من تخريب العمران كانت حكمة الحظر فيه موجودة فكان تحريمه مهماً‏.‏ وأدلته من القرآن والسنة كثيرة أكثر من أن يأخذها قانون الضبط والحصر‏.‏ ولو كان كل واحد قادراً عليه لوضع بإزائه من العقوبات الزاجرة ما وضع بإزاء غيره من المفسدات للنوع التي يقدر كل أحد على اقترافها من الزنا والقتل والسكر‏.‏ إلا أن الظلم لا يقدر عليه إلا من يقدر عليه لأنه إنما يقع من أهل القدرة والسلطان فبولغ في ذمه وتكرير الوعيد فيه عسى أن يكون الوازع فيه للقادر عليه في نفسه‏.‏ ‏"‏ وما ربك بظلام للعبيد ‏"‏‏.‏ ولا تقولن أن العقوبة قد وضعت بإزاء الحرابة في الشرع وهي من ظلم القادر لأن المحارب زمن حرابته قادر‏.‏ فإن في الجواب عن ذلك طريقين‏.‏ أحدهما أن تقول‏:‏ العقوبة على ما يقترفه من الجنايات في نفس أو مال على ما ذهب إليه كثير وذلك إنما يكون بعد القدرة عليه والمطالبة بجنايته وأما نفس الحرابة فهي خلو من العقوبة‏.‏ الطريق الثاني أن تقول‏:‏ المحارب لا يوصف بالقدرة لأنا إنما نعني بقدرة الظالم اليد المبسوطة التي لا تعارضها قدرة فهي المؤذنة بالخراب وأما قدرة المحارب فإنما هي إخافة يجعلها ذريعة لأخذ الأموال والمدافعة عنها بيد الكل موجودة شرعاً وسياسة فليست من القدر المؤذن بالخراب‏.‏ والله قادر على ما يشاء‏.‏ فصل‏:‏ ومن أشد الظلامات وأعظمها في إفساد العمران تكليف الأعمال وتسخير الرعايا بغير حق‏.‏ وذلك أن الأعمال من قبيل المتمولات كما سنبين في باب الرزق لأن الرزق والكسب إنما هو قيم أعمال أهل العمران‏.‏ فإذا مساعيهم وأعمالهم كلها متمولات ومكاسب لهم بل لا مكاسب لهم سواها فإن الرعية المعتملين في العمارة إنما معاشهم ومكاسبهم من اعتمالهم ذلك‏.‏ فإذا كلفوا العمل في غير شأنهم واتخذوا سخرياً في معاشهم بطل كسبهم واغتصبوا قيمة عملهم ذلك وهو متمولهم فدخل عليهم الضرر وذهب لهم حظ كبير من معاشهم بل هو معاشهم بالجملة‏.‏ وإن تكرر ذلك عليهم أفسد آمالهم في العمارة وقعدوا عن السعي فيها جملة فأدى إلى انتقاض العمران وتخريبه‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق‏.‏ الاحتكار وأعظم من ذلك في الظلم وإفساد العمران والدولة التسلط على أموال الناس بشراء ما بين ايديهم بأبخس الأثمان ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب والإكراه في الشراء والبيع‏.‏ وربما تفرض عليهم تلك الأثمان على التراخي والتأجيل فيتعللون في تلك الخسارة التي تلحقهم بما تحدثهم المطامع من جبر ذلك بحوالة الأسواق في تلك البضائع التي فرضت عليهم بالغلاء إلى بيعها بأبخس الأثمان وتعود خسارة ما بين الصفقتين على رؤوس أموالهم‏.‏ وقد يعم ذلك أصناف التجار المقيمين بالمدينة والواردين من الأفاق في البضائع وسائر السوقة وأهل الدكاكين في المآكل والفواكه وأهل الصنائع فيما يتخذ من الألات والمواعين فتشمل الخسارة سائر الأصناف والطبقات وتتوالى على الساعات وتجحف برؤوس الأموال ولا يجدون عنها وليجة إلا القعود عن الأسواق لذهاب رؤوس الأموال في جبرها بالأرباح ويتثاقل الواردون من الأفاق لشراء البضائع وبيعها من أجل ذلك فتكسد الأسواق ويبطل معاش الرعايا لأن عامته من البيع والشراء‏.‏ وإذا كانت الأسواق عطلاً منها بطل معاشهم وتنقص جباية السلطان أو تفسد لأن معظمها من أواسط الدولة وما بعدها إنما هو من المكوس على البياعات كما قدمناه‏.‏ ويؤول ذلك إلى تلاشي الدولة وفساد عمران المدينة‏.‏ ويتطرق هذا الخلل على التدريج ولا يشعر به‏.‏ هذا ما كان بأمثال هذه الذرائع والأسباب إلى أخذ الأموال وأما أخذها مجاناً والعدوان على الناس في أموالهم وحرمهم ودمائهم وأسرارهم وأعراضهم فهو يفضي إلى الخلل والفساد دفعة وتنتقض الدولة سريعاً بما ينشأ عنه من الهرج المفضي إلى الانتقاض‏.‏ ومن أجل هذه المفاسد حظر الشرع ذلك كله وشرع المكايسة في البيع والشراء وحظر أكل واعلم أن الداعي لذلك كله إنما هو حاجة الدولة والسلطان إلى الإكثار من المال بما يعرض لهم من الترف في الأحوال فتكثر نفقاتهم ويعظم الخرج ولا يفي به الدخل على القوانين المعتادة فيستحدثون ألقاباً ووجوهاً يوسعون بها الجباية ليفي لهم الدخل بالخرج‏.‏ ثم لا يزال الترف يزيد والخرج بسببه يكثر والحاجة إلى أموال الناس تشتد ونطاق الدولة بذلك يزيد إلى أن تنمحي دائرتها ويذهب رسمها ويغلبها طالبها‏.‏ والله أعلم‏.‏

  الفصل الرابع والأربعون في الحجاب كيف يقع في الدول

وأنه يعظم عند الهرم اعلم أن الدولة في أول أمرها تكون بعيدة عن منازع الملك كما قدمناه لأنه لا بد لها من العصبية التي بها يتم أمرها ويحصل استيلاؤها والبداوة هي شعار العصبية والدولة إن كان قيامها بالدين فإنه بعيد عن منازع الملك وإن كان قيامها بعز الغلب فقط فالبداوة التي بها يحصل الغلب بعيدة أيضاً عن منازع الملك ومذاهبه‏.‏ فإذا كانت الدولة في أول أمرها بدوية كان صاحبها على حال الغضاضة والبداوة والقرب من الناس وسهولة الأذن‏.‏ فإذا رسخ عزه وصار إلى الانفراد بالمجد واحتاج إلى الانفراد بنفسه عن الناس للحديث مع أوليائه في خواص شؤونه لما يكثر حينئذ من بحاشيته فيطلب الانفراد عن العامة ما استطاع ويتخذ الأذن ببابه على من لا يأمنه من أوليائه وأهل دولته ويتخذ حاجباً له عن الناس يقيمه ببابه لهذه الوظيفة‏.‏ ثم إذا استفحل الملك وجاءت مذاهبه ومنازعه استحالت خلق صاحب الدولة إلى خلق الملك وهي خلق غريبة مخصوصة يحتاج مباشرها إلى مداراتها ومعاملتها بما يجب لها‏.‏ وربما جهل تلك الخلق منهم بعض من يباشرهم فوقع فيما لا يرضيهم فسخطوه وصاروا إلى حالة الانتقام منه‏.‏ فانفرد بمعرفة هذه الأداب الخواص من أوليائهم وحجبوا غير أولئك الخاصة عن لقائهم في كل وقت حفظاً على أنفسهم من معاينة ما يسخطهم وعلى الناس من التعرض لعقابهم‏.‏ فصار لهم حجاب آخر أخص من الحجاب الأول يفضي إليهم منه خواصهم من الأولياء ويحجب دونه من سواهم من العامة‏.‏ والحجاب الثاني يفضي إلى مجالس الأولياء ويحجب دونه من سواهم من العامة‏.‏ والحجاب الأول يكون في أول الدولة كما ذكرنا كما حدث لأيام معاوية وعبد الملك وخلفاء بني أمية وكان القائم على ذلك الحجاب يسمى عندهم الحاجب جرياً على ثم لما جاءت دولة بني العباس وجدت الدولة من الترف والعز ما هو معروف وكملت خلق الملك على ما يجب فيها فدعا ذلك إلى الحجاب الثاني وصار اسم الحاجب أخص به وصار بباب الخلفاء داران للعباسية‏:‏ دار الخاصة ودار العامة كما هو مسطور في أخبارهم‏.‏ ثم حدث في الدول حجاب ثالث أخص من الأولين وهو عند محاولة الحجر على صاحب الدولة‏.‏ وذلك أن أهل الدولة وخواص الملك إذا نصبوا الأبناء من الأعقاب وحاولوا الاستبداد عليهم فأول ما يبدأ به ذلك المستبد أن يحجب عنه بطانة أبيه وخواص أوليائه يوهمه أن في مباشرتهم إياه خرق حجاب الهيبة وفساد قانون الأدب ليقطع بذلك لقاء الغير ويعوده ملابسة أخلاقه هو حتى لا يتبدل به سواه إلى أن يستحكم الاستيلاء عليه فيكون هذا الحجاب من دواعيه‏.‏ وهذا الحجاب لا يقع في الغالب إلا أواخر الدولة كما قدمناه في الحجر‏.‏ ويكون دليلاً على هرم الدولة ونفاد قوتها‏.‏ وهو مما يخشاه أهل الدول على أنفسهم لأن القائمين بالدولة يحاولون ذلك بطباعهم عند هرم الدولة وذهاب الاستبداد من أعقاب ملوكهم لما ركب في النفوس من محبة الاستبداد بالملك وخصوصاً مع الترشيح لذلك وحصول دواعيه ومباديه‏.‏

  الفصل الخامس والأربعون فيما يقع من آثار الهرم في الدولة انقسامها

اعلم أن أول ما يقع من آثار الهرم في الدولة انقسامها‏.‏ وذلك أن الملك عندما يستفحل ويبلغ من أحوال الترف والنعيم إلى غايتها ويستبد صاحب الدولة بالمجد وينفرد به يأنف حينئذ عن المشاركة ويصير إلى قطع أسبابها ما استطاع بإهلاك من استراب به من ذوي قرابته المرشحين لمنصبه‏.‏ فربما ارتاب المساهمون له في ذلك بأنفسهم ونزعوا إلى القاصية واجتمع إليهم من يلحق بهم مثل حالهم من الاغترار والاسترابة‏.‏ ويكون نطاق الدولة قد أخذ في التضايق ورجع عن القاصية فيستبد ذلك النازع من القرابة فيها‏.‏ ولا يزال أمر يعظم بتراجع نطاق الدولة حتى يقاسم الدولة أو يكاد‏.‏ وانظر ذلك في الدولة الإسلامية العربية حين كان أمرها حريزاً مجتمعاً ونطاقها ممتداً في الاتساع وعصبية بني عبد مناف واحدة غالبة على سائر مضر فلم ينبض عرق من الخلاف سائر أيامه إلا ما كان من بدعة الخوارج المستميتين في شأن بدعتهم لم يكن ذلك لنزعة ملك ولا رئاسة ولم يتم أمرهم لمزاحمتهم العصبية القوية‏.‏ ثم لما خرج الأمر من بني أمية واستقل بنو العباس بالأمر وكانت الدولة العربية قد بلغت الغاية من الغلب والترف وآذنت بالتقلص عن القاصية نزع عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس قاصية دولة الإسلام فاستحدث بها ملكاً واقتطعها عن دولتهم وصير الدولة دولتين‏.‏ ثم نزع إدريس إلى المغرب وخرج به وقام بأمره وأمر ابنه من بعده البرابرة من أوربة ومغيلة وزناتة واستولى على ناحية المغربين‏.‏ ثم ازدادت الدولة تقلصاً فاضطرب الأغالبة في الامتناع عليهم‏.‏ ثم خرج الشيعة وقام بأمرهم كتامة وصنهاجة واستولوا على إفريقية والمغرب ثم مصر والشام والحجاز وغلبوا على الأدارسة وقسموا الدولة دولتين أخريين وصارت الدولة العربية ثلاث دول‏:‏ دولة بني العباس بمركز العرب وأصلهم ومادتهم الإسلام ودولة بني أمية المجددين بالإندلس ملكهم القديم وخلافتهم بالمشرق ودولة العبيديين بإفريقية ومصر والشام والحجاز‏.‏ ولم تزل هذه الدول إلى أن كان انقراضها متقارباً أو جميعاً‏.‏ وكذلك انقسمت دولة بني العباس بدول أخرى‏:‏ وكان بالقاصية بنو سامان فيما وراء النهر وخراسان والعلوية في الديلم وطبرستان وآل ذلك إلى استيلاء الديلم على العراقين وعلى بغداد والخلفاء‏.‏ ثم جاء السلجوقية فملكوا جميع ذلك‏.‏ ثم انقسمت دولتهم أيضاً بعد الاستفحال كما هو معروف في أخبارهم‏.‏ وكذلك اعتبره في دولة صنهاجة بالمغرب وإفريقية لما بلغت إلى غايتها أيام باديس بن المنصور خرح عليه عمه حماد واقتطع ممالك الغرب لنفسه ما بين جبل أوراس إلى تلمسان وملوية واختط القلعة بجبل كتامة حيال المسيلة ونزلها واستولى على مركزهم أشير بجبل تيطري واستحدث ملكاً آخر قسيماً لملك آل باديس وبقي آل باديس بالقيروان وما إليها ولم يزل ذلك إلى أن انقرض أمرهما جميعاً‏.‏ وكذلك دولة الموحدين لما تقلص ظلها ثار بإفريقية بنو أبي حفص فاستقلوا بها واستحدثوا ملكاً لأعقابهم بنواحيها‏.‏ ثم لما استفحل أمرهم واستولى على الغاية خرج على الممالك الغربية من أعقابهم الأمير أبو زكريا يحيى ابن السلطان أبي إسحاق إبراهيم رابع خلفائهم واستحدث ملكاً ببجاية وقسنطينة وما إليها أورثه بنيه وقسموا به الدولة قسمين ثم استولى على كرسي الحضرة بتونس ثم انقسم الملك ما بين أعقابهم ثم عاد الاستيلاء فيهم‏.‏ وقد ينتهي الانقسام إلى أكثر من دولتين وثلاث وفي غير أعياص الملك من قومه كما وقع في ملوك الطوائف بالأندلس وملوك العجم بالمشرق وفي ملك صنهاجة بإفريقية فقد كان لآخر دولتهم في كل حصن من حصون إفريقية ثائر مستقل بأمره كما تقدم ذكره‏.‏ وكذا حال الجريد والزاب من إفريقية قبيل هذا العهد كما نذكره‏.‏ وهكذا شأن كل دولة لا بد وأن يعرض فيها عوارض الهرم بالترف والدعة وتقلص ظل الغلب فيقتسم أعياصها أو من يغلب من رجال دولتها الأمر وتتعدد فيها الدول‏.‏ والله وارث الأرض ومن عليها‏.‏ في أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع قد قدمنا ذكر العوارض المؤذنة بالهرم وأسبابه واحداً بعد واحد وبينا أنها تحدث للدولة بالطبع وأنها كلها أمور طبيعية لها‏.‏ وإذا كان الهرم طبيعياً في الدولة كان حدوثه بمثابة حدوث الأمور الطبيعية كما يحدث الهرم في المزاج الحيواني‏.‏ والهرم من الأمراض المزمنة التي لا يمكن دواؤها ولا ارتفاعها لما أنه طبيعي والأمور الطبيعية لا تتبدل‏.‏ وقد يتنبه كثير من أهل الدول ممن له يقظة في السياسة فيرى ما نزل بدولتهم من عوارض الهرم ويظن أنه ممكن الارتفاع فيأخذ نفسه بتلافي الدولة وإصلاح مزاجها عن ذلك الهرم ويحسبه أنه لحقها بتقصير من قبله من أهل الدولة وغفلتهم وليس كذلك فإنها أمور طبيعية للدولة والعوائد هي المانعة له من تلافيها‏.‏ والعوائد منزلة طبيعية أخرى فإن من أدرك مثلاً أباه وأكثر أهل بيته يلبسون الحرير والديباج ويتحلون بالذهب في السلاح والمراكب ويحتجبون عن الناس في المجالس والصلوات فلا يمكنه مخالفة سلفه في ذلك إلى الخشونة في اللباس والزي والاختلاط بالناس إذ العوائذ حينئذ تمنعه وتقبح عليه مرتكبه‏.‏ ولو فعله لرمي بالجنون والوسواس في الخروج عن العوائد دفعة وخشي عليه عائدة ذلك وعاقبته في سلطانه‏.‏ وانظر شأن الأنبياء في إنكار العوائد ومخالفتها لولا التأييد الإلهي والنصر السماوي‏.‏ وربما تكون العصبية قد ذهبت فتكون الأبهة تعوض عن موقعها من النفوس‏.‏ فإذا أزيلت تلك الأبهة مع ضعف العصبية تجاسرت الرعايا على الدولة بذهاب أوهام الأبهة فتتدرع الدولة بتلك الأبهة ما أمكنها حتى ينقضي الأمر‏.‏ وربما يحدث عند آخر الدولة قوة توهم أن الهرم قد ارتفع عنها ويومض ذبالها الماضة الخمود كما يقع في الذبال المشتعل فإنه عند مقاربة انطفائه يومض إيماضة توهم أنها اشتعال وهي انطفاء‏.‏ فاعتبر ذلك ولا تغفل سر الله تعالى وحكمته في اطراد وجوده على ما قدر فيه‏.‏ ‏"‏ ولكل أجل كتاب ‏"‏‏.‏

  الفصل السابع والأربعون في كيفية طروق الخلل للدولة

اعلم أن مبنى الملك على أساسين لا بد منهما‏.‏ فالأول الشوكة والعصبية وهو المعبر عنه بالجند والثاني المال الذي هو قوام أولئك الجند وإقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال‏.‏ والخلل إذا طرق الدولة طرقها في هذين الأساسين‏.‏ فلنذكر أولاً طروق الخلل في الشوكة والعصبية ثم نرجع واعلم أن تمهيد الدولة وتأسيسها كما قلناه إنما يكون بالعصبية وأنه لا بد من عصبية كبرى جامعة للعصائب مستتبعة لها وهي عصبية صاحب الدولة الخاصة من عشيرة وقبيلة‏.‏ فإذا جاءت الدولة طبيعة الملك من الترف وجدع أنوف أهل العصبية كان أول ما يجدع أنوف عشيرته ذوي قرباه المقاسمين له في اسم الملك فيستبد في جدع أنوفهم بما بلغ من سوادهم‏.‏ ويأخذهم الترف أيضاً أكثر من سواهم لمكانهم من الملك والعز والغلب فيحيط بهم هدمان وهما الترف والقهر‏.‏ ثم يصير القهر آخراً إلى القتل لما يحصل من مرض قلوبهم عند رسوخ الملك لصاحب الأمر فيقلب غيرته منهم إلى الخوف على ملكه فيأخذهم بالقتل والإهانة وسلب النعمة والترف الذي تعودوا الكثير منه فيهلكون ويقفون وتفسد عصبية صاحب الدولة منهم وهي العصبية الكبرى التي كانت تجمع بها العصائب وتستتبعها فتنحل عروتها وتضعف شكيمتها وتستبدل عنها بالبطالة من موالي النعمة وصنائع الإحسان ويتخذ منهم عصبية إلا أنها ليست مثل تلك الشدة الشكيمية لفقدان الرحم والقرابة منها‏.‏ وقد كنا قدمنا أن شأن العصبية وقوتها إنما هي بالقرابة والرحم لما جعل الله في ذلك‏.‏ فينفرد صاحب الدولة عن العشير والأنصار الطبيعية ويحس بذلك أهل العصائب الأخرى فيتجاسرون عليه وعلى بطانته تجاسراً طبيعياً فيهلكهم صاحب الدولة ويتبعهم بالقتل واحداً بعد واحد‏.‏ ويقفد الآخر من أهل الدولة في ذلك الأول مع ما يكون قد نزل بهم من مهلكة الترف الذي قدمنا‏.‏ فيستولي عليهم الهلاك بالترف والقتل حتى يخرجوا عن صبغة تلك العصبية وينسوا نعرتها وسورتها ويصيروا أجراء على الحماية ويقلون لذلك فتقل الحامية التي تنزل بالأطراف والثغور فيتجاسر الرعايا على نقض الدعوة في الأطراف ويبادر الخوارج على الدولة من الأعياص وغيرهم إلى تلك الأطراف لما يرجون حينئذ من حصول غرضهم بمبايعة أهل القاصية لهم وأمنهم من وصول الحامية إليهم‏.‏ ولا يزال يتدرج ونطاق الدولة يتضايق حتى تصير الخوارج في أقرب الأماكن إلى مركز الدولة‏.‏ وربما انقسمت الدولة عند ذلك بدولتين أو ثلاث على قدر قوتها في الأصل كما قلناه ويقوم بأمرها غير أهل عصبيتها لكن إذعاناً لأهل عصبيتها ولغلبهم المعهود‏.‏ واعتبر هذا في دولة العرب في الإسلام انتهت أولاً إلى الأندلس والهند والصين‏.‏ وكان أمر بني أمية نافذاً في جميع العرب بعصبية بني عبد مناف حتى لقد أمر سليمان بن عبد الملك من دمشق بقتل عبد العزيز بن موسى بن نصير بقرطبة فقتل ولم يرد أمره‏.‏ ثم تلاشت عصبية بني أمية بما أصابهم من الترف فانقرضوا‏.‏ وجاء بنو العباس فغضوا من أعنة بني هاشم وقتلوا الطالبيين وشردوهم فانحلت عصبية عبد مناف وتلاشت وتجاسر العرب عليهم فاستبد عليهم أهل القاصية مثل بني الأغلب بإفريقية وأهل الأندلس وغيرهم وانقسمت الدولة‏.‏ ثم خرج بنو إدريس بالمغرب وقام البربر بأمرهم إذعاناً للعصبية التي لهم وأمناً أن تصلهم مقاتلة أو حامية للدولة‏.‏ فإذا خرج الدعاة آخراً فيتغلبون على الأطراف والقاصية وتحصل لهم هناك دعوة وملك تنقسم به الدولة‏.‏ وربما يزيد ذلك متى زادت الدولة تقلصاً إلى أن ينتهي إلى المركز وتضعف البطانة بعد ذلك بما أخذ منها الترف فتهلك وتضمحل وتضعف الدولة المنقسمة كلها‏.‏ وربما طال أمدها بعد ذلك فتستغني عن العصبية بما حصل لها من الصبغة في نفوس أهل إيالتها وهي صبغة الانقياد والتسليم منذ السنين الطويلة التي لا يعقل أحد من الأجيال مبدأها ولا أوليتها فلا يعقلون إلا التسليم لصاحب الدولة فيستغني بذلك عن قوة العصائب ويكفي صاحبها بما حصل لها في تمهيد أمرها الأجراء على الحامية من جندي ومرتزق‏.‏ ويعضد ذلك ما وقع في النفوس عامة من التسليم فلا يكاد أحد أن يتصور عصياناً أو خروجاً إلا والجمهور منكرون عليه مخالفون له فلا يقدر على التصدي لذلك ولو جهد جهده‏.‏ وربما كانت الدولة في هذا الحال أسلم من الخوارج والمنازعة لاستحكام صبغة التسليم والانقياد لهم‏.‏ فلا تكاد النفوس تحدث سرها بمخالفة ولا يختلج في ضميرها انحراف عن الطاعة فيكون أسلم من الهرج والانتقاض الذي يحدث من العصائب والعشائر‏.‏ ثم لا يزال أمر الدولة كذلك وهي تتلاشى في ذاتها شأن الحرارة الغريزية في البدن العادم للغذاء إلى أن تنتهي إلى وقتها المقدور‏.‏ ولكل أجل كتاب ولكل دولة أمد‏.‏ ‏"‏ والله يقدر الليل والنهار ‏"‏ وهو الواحد القهار‏.‏ وأما الخلل الذي يتطرق من جهة المال فاعلم أن الدولة في أولها تكون بدوية كما مر فيكون خلق الرفق بالرعايا والقصد في النفقات والتعفف عن الأموال فتتجافى عن الإمعان في الجباية والتحذلق والكيس في جمع الأموال وحسبان العمال ولا داعية حينئذ إلى الإسراف في النفقة فلا تحتاج الدولة إلى كثرة المال‏.‏ ثم يحصل الاستيلاء ويعظم ويستفحل الملك فيدعو إلى الترف ويكثر الأنفاق بسببه فتعظم نفقات السلطان وأهل الدولة على العموم بل يتعدى ذلك إلى أهل المصر ويدعو ذلك إلى الزيادة في أعطيات الجند وأرزاق أهل الدولة‏.‏ ثم يعظم الترف فيكثر الإسراف في النفقات وينتشر ذلك في الرعية لأن الناس على دين ملوكها وعوائدها‏.‏ ويحتاج السلطان إلى ضرب المكوس على أثمان البياعات في الأسواق لإدرار الجباية لما يراه من ترف المدينة الشاهد عليهم بالرفه ولما يحتاج هو إليه من نفقات سلطانه وأرزاق جنده‏.‏ ثم تزيد عوائد الترف فلا تفي بها المكوس وتكون الدولة قد استفحلت في الاستطالة والقهر لمن تحت يدها من الرعايا فتمتد أيديهم إلى جمع المال من أموال الرعايا من مكس أو تجارة أو نقد في بعض الأحوال بشبهة أو بغير شبهة‏.‏ ويكون الجند في ذلك الطور قد تجاسرعلى الدولة بما لحقها من الفشل والهرم في العصبية فتتوقع ذلك منهم وتداوى بسكينة العطايا وكثرة الإنفاق فيهم ولا تجد عن ذلك وليجة‏.‏ ويكون جباة الأموال في الدولة قد عظمت ثروتهم في هذا الطور بكثرة الجباية وكونها بأيديهم وبما اتسع لذلك من جاههم فيتوجه إليهم باحتجان الأموال من الجباية وتفشو السعاية فيهم بعضهم عن بعض للمنافسة والحقد فتعمهم النكبات والمصادرات واحداً واحداً إلى أن تذهب ثروتهم وتتلاشى أحوالهم ويفقد ما كان للدولة من االأبهة والجمال بهم‏.‏ فإذا اصطلمت نعمتهم تجاوزتهم الدولة إلى أهل الثروة من الرعايا سواهم‏.‏ ويكون الوهن في هذا الطور قد لحق الشوكة وضعفت عن الاستطالة والقهر فتنصرف سياسة صاحب الدولة حينئذ إلى مداراة الأمور ببذل المال ويراه أرفع من السيف لقلة غنائه‏.‏ فتعظم حاجته إلى الأموال زيادة على النفقات وأرزاق الجند ولا يغني فيما يريد‏.‏ ويعظم الهرم بالدولة ويتجاسر عليها أهل النواحي والدولة تنحل عراها في كل طور من هذه إلى أن تفضي إلى الهلاك وتتعرض لاستيلاء الطلاب‏.‏ فإن قصدها طالب انتزعها من أيدي القائمين بها وإلا بقيت وهي تتلاشى إلى أن تضمحل كالذبال في السراج إذا فني زيته وطفىء‏.‏ والله مالك الأمور ومدبر الأكوان لا إله إلا هو‏.‏ أولاً إلى نهايته ثم تضايقه طوراً بعد طور إلى فناء الدولة واضمحلالها قد كان تقدم لنا في فصل الخلافة والملك وهو الثالث من هذه المقدمة أن كل دولة لها حصة من الممالك والعمالات لا تزيد عليها‏.‏ واعتبر ذلك بتوزيع عصابة الدولة على حماية أقطارها وجهاتها‏.‏ فحيث نفد عددهم فالطرف الذي انتهى عنده هو الثغر ويحيط بالدولة من سائر جهاتها كالنطاق‏.‏ وقد تكون النهاية هي نطاق الدولة الأولى‏.‏ وقد يكون أوسع منه إذا كان عدد العصابة أوفر من الدولة قبلها‏.‏ وهذا كله عندما تكون الدولة في شعار البداوة وخشونة الباس‏.‏ فإذا استفحل العز والغلب وتوفرت النعم والأرزاق بدرور الجبايات وزخر بحر الترف والحضارة ونشأت الأجيال على اعتبار ذلك لطفت أخلاق الحامية ورقت حواشيهم‏.‏ وعاد من ذلك إلى نفوسهم هيئات الجبن والكسل بما يعانونه من خنث الحضارة المؤدي إلى الانسلاخ من شعار البأس والرجولية بمفارقة البداوة وخشونتها وبأخذهم العز بالتطاول إلى الرياسة والتنازع عليها فيفضي إلى قتل بعضهم بيعض ويكبحهم السلطان عن ذلك بما يؤدي إلى قتل أكابرهم وإهلاك رؤسائهم فتفقد الأمراء والكبراء ويكثر التابع والمرؤوس فيفل ذلك من حد الدولة لكسر من شوكتها‏.‏ ويقع الخلل الأول في الدولة وهو الذي من جهة الجند والحامية كما تقدم‏.‏ ويساوق ذلك السرف في النفقات بما يعتريهم من أبهة العز وتجاوز الحدود بالبذخ بالمناغاة في المطاعم والملابس وتشييد القصور واستجادة السلاح وارتباط خيول فيقصر دخل الدولة حينئذ عن خرجها ويطرق الخلل الثاني في الدولة وهو الذي من جهة المال والجباية‏.‏ ويحصل العجز والانتقاص بوجود الخللين‏.‏ وربما تنافس رؤساؤهم فتنازعوا وعجزوا عن مغالبة المجاورين والمنازعين ومدافعتهم‏.‏ وربما اعتز أهل الثغور والأطراف بما يحسون من ضعف الدولة وراءهم فيصيرون إلى الاستقلال والاستبداد بما في أيديهم من العمالات ويعجز صاحب الدولة عن حملهم على الجادة فيضيق نطاق الدولة عما كانت انتهت إليه في أولها وترجع العناية في تدبيرها بنطاق دونه إلى أن يحدث في النطاق الثاني ما حدث في الأول بعينه من العجز والكسل في العصابة وقلة الأموال والجباية‏.‏ فيذهب القائم بالدولة إلى تغيير القوانين التي كانت عليها سياسة الدولة من قبل الجند والمال والولايات ليجري حالها على استقامة بتكافؤ الدخل والخرج والحامية والعمالات وتوزيع الجباية على الأرزاق ومقايسة ذلك بأول الدولة في سائر الأحوال‏.‏ والمفاسد مع ذلك متوقعة من كل جهة‏.‏ فيحدث في هذا الطور من بعد ما حدث في الأول من قبل‏.‏ ويعتبر صاحب الدولة ما اعتبره الأول ويقايس بالوزان الأول أحوالها الثانية يروم دفع مفاسد الخلل الذي يتجدد في كل طور ويأخذ من كل طرف حتى يضيق نطاقها الآخر إلى نطاق دونه كذلك ويقع فيه ما وقع في الأول‏.‏ فكل واحد من هؤلاء المغيرين للقوانين قبلهم كأنهم منشئون دولة أخرى ومجددون ملكاً‏.‏ حتى تنقرض الدولة وتتطاول الأمم حولها إلى التغلب عليها وإنشاء دولة أخرى لهم فيقع من ذلك ما قدر الله وقوعه‏.‏ واعتبر ذلك في الدولة الإسلامية كيف اتسع نطاقها بالفتوحات والتغلب على الأمم ثم تزايد الحامية وتكاثر عددهم بما تخولوه من النعم والأرزاق إلى أن انقرض أمر بني أمية وغلب بنو العباس‏.‏ ثم تزايد الترف ونشأت الحضارة وطرق الخلل فضاق النطاق من الأندلس والمغرب بحدوث الدولة الأموية المروانية والعلوية واقتطعوا ذينك الثغرين عن نطاقها إلى أن وقع الخلاف بين بني الرشيد وظهر دعاة العلوية من كل جانب وتمهدت لهم دول ثم قتل المتوكل واستبد الأمراء على الخلفاء وحجروهم واستقل الولاة بالعمالات في الأطراف‏.‏ وانقطع الخراج منها وتزايد الترف‏.‏ وجاء المعتضد فغير قوانين الدولة إلى قانون آخر من السياسة أقطع فيه ولاة الأطراف ما غلبوا عليه مثل بني سامان وراء النهر وبني طاهر العراق وخراسان وبني الصفار السند وفارس وبني طولون مصر وبنى الأغلب إفريقية إلى أن افترق أمر العرب وغلب العجم واستبد بنو بويه والديلم بدولة الإسلام وحجروا الخلافة وبقي بنو سامان في استبدادهم وراء النهر وتطاول الفاطميون من المغرب إلى مصر والشام فملكوه‏.‏ ثم قامت الدولة السلجوقية من الترك فاستولوا على ممالك الإسلام وأبقوا الخلفاء في حجرهم إلى أن تلاشت دولهم‏.‏ واستبد الخلفاء منذ عهد الناصر في نطاق أضيق من هالة القمر وهو عراق العرب إلى أصبهان وفارس والبحرين‏.‏ وأقامت الدولة كذلك بعض الشيء إلى أن انقرض أمر الخلفاء على يد هولاكو بن طولى بن دوشي خان ملك التتر والمغل حين غلبوا السلجوقية وملكوا ما كان بأيديهم من ممالك الإسلام‏.‏ وهكذا يتضايق نطاق كل دولة على نسبة نطاقها الأول‏.‏ ولا يزال طوراً بعد طور إلى أن تنقرض الدولة‏.‏ واعتبر ذلك في كل دولة عظمت أو صغرت‏.‏ فهكذا سنة الله في الدول إلى أن يأتي ما قدرالله من الفناء على خلقه‏.‏ و ‏"‏ كل شيء هالك إلا وجهه ‏"‏‏.‏